كيف ساعد الرجاء حبة البر على الحياة ، إن الرَّجاءَ طبيعة الحياة، لا بل هو اسم آخر من أسمائها، فما كانت الحياة إلا أملًا يتحقق لصاحبه على غير إرادة منه، وما كان حي قط إلا أمنية في ضمير الغيب، غلب فيها الإقدام على الإحجام، والتوفيق على الحبوط، وسنة الخلق على فوضى الإهمال. فإذا هي ذات سويّةٌ، ونفس شاعرة ظهرت، يسبقها الرَّجاءُ ويحدوها الرَّجاءُ ويستاق ركابها الرجاء، ولو كان غير الرجاء عنوانًا للطبيعة لما كان لنفس حية من سبيل إلى الوجود.
أرأيت حبة البر الضئيلة متروكة حيث يترك الرّفات السحيق ؟
أين هي في قلتها وصغرها من عناصر الشك المحدقة بها، وزواجر الخوف المترصدة لها، تثقلها الأرضُ بأديمها، وتنذرها الرياح بسمومها، ومن فوقها منجل للحصاد، كم حصد من قبلها سنابل وحبوبا، لا بل قبائل وشعوبًا، وألوانًا من نبت الحياة وضروبًا، فما كان يعوزُها في كلّ ذرَّةٍ من التراب نذير جهير ، وفي صوب من الفضاء عدو قدير.
تلك الحبةُ لو وقفت لحظة في مكمنها تزن قوتها إلى تلك القوى، وتقسم جرمها على تلك الأجرام، وتقيم حقها في النماء على ما يظهر لها من هذه الفروق، وتبني أملها في الفلاح على ما أصاب الزروع الفانية منْ قديم، فأي مثوى كانت تراه لمداراة ضعفها وذلَّتِها أرأف بها من الترابِ؟ وأي مقر كان أحق بها من ذلك القبر المستور؟ إنّه مأمنها الذي لا تخاف فيه، وفي القبر يأمنُ الأموات !

أعلِّل حاجة الإنسان للرجاء؟
لكنَّ الرَّجاءَ لا يدين بهذا المنطق العقيم، إنه يقول لها انهضي فتنهض مزّقي غلافَكِ فتمزّقه، وشُقّي أديم الأرض فتشقه وكافحي الرياح فتكافحها، وابلغي حظّك من التمام فتبلغه، فإذا هي زرع بهيج مستو على سوقه يُعجب الزراع وما أحسن حظ الأحياء ! أيها الرجاء ما أحوج الناس إليك، وما أسهل طريقك إليهم، كذلك عهدنا بألزم حاجات الأحياء الهواء والماء والضياء، ولعمري إنَّ حاجتهم إليك لأكبر ، وإنَّ طريقك إليهم لأسهل وأيسر، لقد تخطيت بهم سدود الموت، فمددت لهم من ورائها رواقًا رحيبًا ينعمون بانتظاره قبل أن ينعموا بجواره، وفتحت أبواب السماء، فعمرها الإنسان بأحبابه وأنصاره، واتَّجه إليها بصلواته وأفكاره، واستأنست له أعالي الكون وأسافلها، فكأنما هو منها في قرارة داره، وكأنما أنت الأثير المفروض لا يخلو منه فضاء، بل أنَّ أثيرَ الرّوح لولاك لما أشرق عليها ضياء، ولما جال في نواحيها جمال السَّماء.